في تحدٍّ سافرٍ لمشاعر المسلمين في شتى بقاع الأرض، جدَّدت صحف الدنمارك أزمة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- حيث أعادت ١٧ صحيفة دنماركية وبعض الصحف الأوروبية مجددًا نشر الرسوم المسيئة تحت زعم حرية الرأي والتعبير التي نشرتها صحيفةِ (جلاندز بوستن) العام الماضي؛ مما أثار موجةَ احتجاجاتٍ عارمة ومقاطعة اقتصادية كبيرة للدنماراك اجتاحت كل الدول الإسلاميةَ والدول الغربية التي يوجد بها جاليات مسلمة.
الخبراء والمتخصصون أكدَّوا أن إعادة نشر الرسوم المسيئة للرسول- صلى الله عليه وسلم- تمثِّل في المقام الأول استهانةً بمشاعر أكثر من مليار ونصف المليار مسلم، لافتين النظر إلى أن المسلمين أصبحوا الآن "ملطشة" لشعوب العالم أجمع؛ نتيجة الصمت الرسمي تجاه مثل هذه القضايا وتخاذل الحكام والزعماء العرب والمسلمين في نصرة قضاياهم والدفاع عن حقوقهم.
وقال الخبراء: إن الغرب يتعامل بازدواجيةٍ كبيرةٍ مع القضايا التي تتعلق بالمسلمين، وهناك حادثة متداولة بصورةٍ كبيرةٍ للتدليل على ذلك؛ حيث سعت بعض صالات العروض الفنية في منهاتن بأمريكا في وقتٍ سابق إلى عرض نحت فني من الشيكولاتة يصوِّر السيد المسيح عاريًا، الا أن العرض أُلغي فورًا بعد تصاعد حدة الاحتجاجات من قِبل عدة منظمات كاثوليكية.
الأزمة بعد تجدُّدها أثارت سؤالاً كبيرًا لدى قطاع عريض من المتابعين حول الكيفية الصحيحة لتعليم الغرب احترام المسلمين وكيفية اتخاذ خطوات جادة على مستويات عدة لإجبار الآخر علي التزام حدود الأدب في تعبيره مع رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.
القضية طرحها (إخوان أون لاين) على خبراء ومتخصصين في مجالات عدة من خلال هذا التحقيق.
في البداية وصف الكاتب الكبير فهمي هويدي إعادة نشر الرسوم بالـ"سخافات" في الممارسات الأوروبية التي لا تتضمن احترامًا للمسلمين ولعقائدهم، وأنها تعكس مدى الاستهانة بالمسلمين في عصرٍ أصبحوا "ملطشة" لكل من هبَّ ودبَّ للنيل منهم ومن رموزهم، مؤكدًا أن ملامح الصورة في أرجاء الكرة الأرضية تؤكِّد أن المسلمين في مرحلة ضعيفة من مراحل الأمة الإسلامية.
وعوَّل هويدي على تحرك منظمة المؤتمر الإسلامي لحل المشكلة، مشيرًا إلى أهمية التفكير الهادئ لتحقيق خطوات متقدِّمة لصالح المسلمين من هذه الجريمة الدنماركية، وإلى ضرورة عدم الصدام مع الغرب خلال الفترة القادمة، مشددًا على أهمية الصبر والحكمة.
وشدَّد على أهمية انتفاضة الجماهير المسلمة في هذه اللحظة التي لا يعتب عليها أحد ولا ينبغي أن يعتب عليها أحد؛ كونها انتفاضةً طبيعيةً تُعبِّر عن موقف الشعوب من الإساءةِ لمقدساتهم ورموزهم.
خط أحمر
وعلى الصعيد القانوني أكَّد د. هشام صادق أستاذ القانون الدولي الخاص بجامعة الإسكندرية أن تكرار الخطأ يُعدُّ جريمةً قانونيةً واضحةً وإصرارًا على مخالفة حقوق الإنسان ومبادئها وقوانينها، مشيرًا إلى أن ما يحدث يمثل إساءةً للأديان وإساءة للغير من جانب الغرب تُشكِّل اعتداءً على المعتقدات الدينية التي تدخل في مقدسات الآخر.
وأوضح د. صادق أن الحرية لها خط يجب ألا يتم تجاوزه، وقال: "إذا كانوا يتحدَّثون عن حرية التعبير والرأي والمعتقد فإن الحرية يجب أن تتوقف إذا أدَّت ممارسة الحرية بشكل عام إلى الاعتداء على الآخرين ومعتقداتهم ومقدَّساتهم".
أضاف: أعتقد أن ما يحدث لا يدخل تحت أي نوعٍ من أنواع ممارسة الحرية؛ تأسيسًا على أبسط قواعد حقوق الإنسان، مشيرًا إلى أن القانون الدولي قد أباح للجميع أن يغيِّر ديانته، ولكنه لم يبح لأحدٍ أن يُسيء إلى رموز الآخر الدينية على الأخص.
مقاضاة الصحف
وشدد د. صادق على أهمية استخدام الطرق الدبلوماسية و"اللوبيات" السياسية الضاغطة على الغرب، ورفع الدعاوى القانونية أمام القضاء الدنماركي، مؤكدًا أن تحريك القضية من عقر دار الغرب بوسائل حضارية سيكون له فائدة كبيرة جدًّا، وسيؤثر على صورتنا التي تشوَّهت كثيرًا عندهم حتى أضحت صورة "بن لادن" هي صورة الإسلام في الغرب!!.
وقال: إن الغرب لا بد أن يفهم أننا أقوياء باللغة التي يفهمونها وليس بطريقتنا الاحتجاجية فحسب؛ حتى نستغل الفرصة من أجل تحسين صورة الإسلام وتوصيل صورته ومبادئه الجميلة إلى الغرب.
ودعا د. صادق مسلمي الدنمارك إلى رفع قضية ضد الصحيفة المسيئة للرسول هناك سريعًا؛ حتى لا يظل الهجوم مستمرًّا على الإسلام دون هجومٍ مضاد.
الإصرار على الخطأ!!
ويرى د. محمد الشحات الجندي عضو مجمع البحوث الإسلامية وعميد كلية الحقوق جامعة حلوان السابق، أن إعادة نشر الرسوم مجدَّدًا يعد من قبيل الإصرار على وضع خطأ تم إدانته رغم أنه أوجد استنكار جميع المسلمين في أنحاء العالم، مشيرًا إلى أنه لا يمكن أن نُعيد اللغط الفلسفي العقيم بأن ما نُشر من إساءاتٍ لا يدخل تحت إطار حقوق الإنسان أو الحريات المحترمة في العالم.
وتساءل: ماذا تعني الإساءة لخُمْس سكان العالم ومطالبتهم بالصمت على أساس الزعم بأن ما حدث- ولا يزال- من قبيل ما أسموه حقوق الإنسان؟!! مشددًا على أنه- بالمنطق الحقيقي- لحقوق الإنسان لا يجوز أن تمر الإساءة للمسلمين وعقيدتهم ورموزهم، خاصةً رمزهم الأعظم محمد- صلى الله عليه وسلم- لا يمر مرور الكرام.
وأكد أهمية أن يسجِّل المسلمون احتجاجهم على ذلك عن طريق محافلهم الرسمية عن طرق علماء الدين والإعلاميين ومنظمات العمل المدني؛ كون ما حدث ليس ديمقراطيًّا، ولا يحق لهم أن يفعلوه مطلقًا، مشيرًا إلى أن الغرب يجب أن يفهم أنه لا ينتقد برنامجًا سياسيًّا في انتخابات غربية ولا برنامجًا تلفازيًّا في فضائياته، ولكنه قام بالإساءة إلى دينٍ عظيمٍ ورمزه الأول.
وشدَّد على ضرورة تحرك النخبة الحاكمة في الأوطان العربية عن طريق منظمة الأمم المتحدة، والتنديد بما حدث وتوضيح الصورة لهم بطريقةٍ دبلوماسيةٍ قوية؛ كي لا يقدموا على مثل هذه الجريمة مرةً أخرى.
وأوضح أن مجمع البحوث الإسلامية يسعى إلى إصدار بيان حول ذلك في اجتماعه القادم، وتوقع أن يكون للمؤسسة الأزهرية دور بعد رجوع شيخ الأزهر من ماليزيا، مشيرًا إلى أن الرفض مبدأ واضح لدينا، ولكن سيكون محور الحديث القادم داخل المؤسسات الدينية هو رد الفعل على ما حدث.
مقاطعة شاملة
آلاف المجمعات التجارية أعلنت وقف بيع المنتجات الدنماركية
وفيما يتعلَّق بالدور الاقتصادي في مجابهة ما حدث، أكَّد د. جهاد صبحي أستاذ الاقتصاد الإسلامي أهمية تفعيل المقاطعة الاقتصادية من جديد ضد الدنماركيين، مشيرًا إلى أن العامل الاقتصادي له دور فاعل ومؤثر على الحكومات والشعوب الغربية.
وطالب د. صبحي بتفعيل العمل الجماعي في التعامل مع هذه القضية وتوحيد كافة جهود الدول الإسلامية والعربية ومعها منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان للضغط الاقتصادي على كل الدول التي يوجد بها الصحف التي نشرت مثل هذه الرسوم، ومقاطعة كل المنتجات الخاصة بهذه الدول.
وأكَّد أنه من المنتظر أن تحترم هذه الدول نفسها ورموزنا الإسلامية؛ كون الذي يتحكَّم في اقتصاد هذه الدول هو مجموعة من الشركات العملاقة متعددة الجنسيات التي تتعارض مصالحها المالية مع أي فعلٍ قد يؤدي إلى الإضرار بأرباحها قائلاً: هذه الشركات إذا شعرت بالخطر في السوق تدفع حكوماتها إلى الاعتذار وعدم العودة إلى ذلك مرةً أخرى".
مضيفًا أن خير دليل على ذلك أن الشركات الأمريكية التي تتعامل في الصمغ طالبت الولايات المتحدة عدم فرض عقوبات على السودان؛ حتى لا يتعارض ذلك مع مصالحها.
وأشار د. صبحي إلى أن المعادلات الاقتصادية لها دائمًا وقع القوة على الممارسات السياسية، وأنه من حق الحكومات أن تستعمل حقَّها في مقاطعة مَن يُصيبها بأذى، ونصَّت على ذلك اتفاقيات "الجات" واتفاق الأورومتوسطية، مؤكدًا أن أسلوب مقاطعة الدول للدول اقتصاديًّا ليس جديدًا؛ حيث قامت بعض الدول الأوروبية بحملات مقاطعة ضد أمريكا، وقامت فرنسا بحملة كبيرة ضد وجبات "التيك أواي" الأمريكية.
وأوضح د. صبحي أن الدنمارك قد تألَّمت تمامًا عندما قاطعت الشعوب العربية والإسلامية منتجات الجبن الدنماركي، ووصلت الخسائر إلى عشرات المليارات يوميًّا.
الغرب المخدوع
من جانبها طالبت د. منال أبو الحسن مدرس الإعلام بجامعة 6 أكتوبر بضرورة أن يكون هناك رد فعل إعلامي قوي يؤسس لعملٍ ممنهجٍ إعلاميًّا لمواجهة الإساءة وتوضيح صورة الإسلام الصحيحة للغرب المخدوع، مستنكرةً موقف الإعلام الحكومي المصري الذي تجاهل القضية مقابل اهتمامه المتزايد بقضايا حُسمَت فقهيًّا ودينيَّا مثل ما يُسمَّى بـ"عيد الحب" والتركيز على العلاقات غير السوية التي تنبهر بقضايا لا أساسَ لها إلا في الوهم.
وقالت: كان من المفترض مهنيًّا وإعلاميًّا أن يلتزم إعلام الدولة بما يمس أهم رموز الأمة الإسلامية على الإطلاق بدلاً من الاهتمام والحرص على تخطِّي أخلاقيات الإعلام وإهدار حقوق المسلمين في الدول العربية والإسلامية، والتي تنظر إلى مصر بعين التقدير والاحترام، وتعتبرها القاطرة التي تتحرك وراءها.
وأعربت عن أسفها إزاء تحكُّم القرار السياسي في الإعلام وعلماء الدين بصورةٍ مهينةٍ جعلت المؤسسة الدينية- وفي مقدمتها الأزهر الشريف- تلجأ إلى "تقزيم" نفسها والادعاء بأن الأزهر مؤسسة مصرية داخلية، كما حدث من شيخ الأزهر في أزمةِ الحجاب، أو يحجِّم الإعلاميين الرسميين من اتخاذ رد فعل إعلامي تجاه ما حدث، متسائلةً: هل هناك إساءة بعد إهانة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في وقتٍ من الممكن أن تقوم مصر ولا تقعد إن أُهين علم الدولة؟!.
ودعت الإعلاميين إلى التوقف عن هذا الصمت وتبليغ رسالتهم الحقيقية وتكوين رأي عام حول القضية بأبعادها الحقيقية والتاريخية تأسس لقاعدة معرفية تؤدي لمقاومة أزمة "الإسلام فوبيا" لدى الغرب.
كما طالبت الأزهر الشريف بأن يدعوَ إلى مؤتمرٍ دولي لمواجهة الأزمة عبر تدشين لوبي دولي من أجل الضغط على الغرب.
منقول من موقع اخوان اون لاين